يمكنك التنقل عبر جميع المواضيع أسفل الصفحة في الجانب الأيمن

اصغر من أستاذ وأكبر من عميد


نشرته في موقع اتحاد الشباب التقدمي
" اعتدت كل يوم أن أخلو لنفسي لحظات أفكر فيها، وفي ما مر علي من أحداث، ولا أعد يوماً لم أتمكن فيه من هذه الخلوة، أحياناً أرى أنه يوم عادي لم يجر فيه إلا ما كان مألوفاً، وأحياناً أرى ما يهز مشاعري ويقلق عواطفي، فأرى مثلاً من كنت أعده موطن وفاء ومركز صداقة، قد باع صداقته بأرخص الأثمان وصدر عنه ما ليس له تفسير إلا الجحود والنكران، وتبين أنه كان صديقاً مخلصاً يوم كان يأمل في قضاء مصلحة، فلما قضى مصلحته تنمر وتنكر، وسألت نفسي في إحدى الخلوات: ماذا كنت تستفيد من تجاربك لو حييت حياة ثانية وعدت لشبابك؟ فقلت: كنت لا أؤمن بالناس كما كنت أؤمن، فكل من رأيت إنما يطلب الخير لنفسه، وإنما يعرفك ويتملقك إذا أحس بالحاجة إليك، ويمقتك ويكرهك إذا أحس الحاجة عند غيرك، وقد علمتني الحوادث أن لا شيء من المال يساوي الصحة، خصوصاً إذا جمع على حساب الصحة، وأن أقرب أقربائي حتى أولادي، ليستأهلون أن تضيع الصحة في سبيلهم، وأحياناً أفكر في ما هو أوسع من ذلك في الإنسانية جمعاء، كيف يغيب عن زعماء العالم أن في الحرب ضرراً للجميع، المنتصر والمهزوم، وأن الغاية التي يسعى إليها الزعماء مهما تكن، لا تساوي ما يهدر من دماء وأموال، وأن الجهود العملية لو بذلت في خير الإنسانية لتقدمت البشرية، وأن العقل الضيق وحده هو الذي جعل فروقاً بين الشرق والغرب، والمسلمين والمسيحيين واليهود، وأن الناس لو عقلوا لأدركوا أن الدين لله وحده".
هذا جزء من مقالة وجدت فيها من أجمل ما كتب كاتبنا ومؤرخنا الذي تمر اليوم ذكرى وفاته، وتتماشى مع كل عصر.
ولد في اكتوبر عام 1886 بالقاهرة من اسرة محافظة تتمتع بقدر كبير من العلم والمعرفة، التحق بالمدرسة الابتدائية ثم الأزهر ثم بمدرسة القضاء الشرعي التي تخرج منها، ثم عين مدرساً استاذاً بكلية الأداب بالجامعة المصرية، ثم عميداً لها رغم أنه لا يحمل درجة الدكتوراة، ثم تركها ليساهم في إنشاء أكبر مجلتين في تاريخ الثقافة العربية هما: "الرسالة"و"الثقافة" كما عين بعد ذلك مستشاراً لوزارة الثقافة فمستشاراً لوزارة التربية والتعليم، وفي سنة 1946 عين مديراً للادارة الثقافية لجامعة الدول العربية، كما عمل لأربع سنوات في القضاء وعُرف عنه فيها التزامه بالعدل وحبه له، وفي فترة من الفترات كان قاضياً في قرية في الواحات، يعيش أهلها عيشة بؤس لا يملكون إلا عدد محدود من شجر النخيل وعين ماء، فذهب لأداء صلاة الجمعة في مسجد القرية، وإذا بالخطيب يحث أهل القرية على مقاطعة أوروبا وعدم قضاء الصيف فيها، فذهل لما يسمعه حيث لم يسافر أحد ابناء القرية للقاهرة من قبل، فكيف سيسافروا لأوروبا، فعجب من سماجة وجهل الخطيب الذي لم يوفق في اختيار موضوع الخطبة بما يفيد أهل القرية، فقال: إن أكثر المتكلمين في الأخلاق من أمثال هذا الخطيب لا يعرفون زمانهم ولا أمتهم ولا يعرفون موقف أمتهم من زمانهم.
واستفاد من عمله بالقضاء أنه كان لا يقطع برأي إلا بعد دراسة وتمحيص شديد واستعراض للآراء والحجج المختلفة، إلى أن عُزل من سلك القضاء لدفاعه عن أستاذه عاطف بركات.
دفع النجاح الذي حققه في سلسلة كتبه الدينية ضحى االإسلام وفجر الإسلام وظهر الإسلام، الكثير من الأدباء إلى تقليده في الإتجاه إلى هذا النوع من الأدب، وروى أدق تفاصيل حياته في كتاب حياتي، ومن مؤلفاته قصة الادب في العالم، فيض الخاطر، إلى ولدي...
وهو صاحب المقولتين الشهيرتين:"أنا أصغر من أستاذ وأكبر من عميد" "أريد أن أعمل لا أن أسيطر" ويقول ابنه الاقتصادي المعروف جلال أمين، أنه لم يره مرة من دون كتاب.
هو الأديب والمفكر والمؤرخ والكاتب أحمد أمين، الذي توفي في مثل هذا اليوم 30 مايو 1954 بعد أن ترك لنا كم من المؤلفات الأدبية وأكثر من 900 مقال.

الجنوبي


نشرته في موقع اتحاد الشباب


الجنوبي..هي الصفة التي التصقت به بعد قصيدته التي حملت هذا العنوان، فهو محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل، ولد في عام 1940 بقرية القلعة بمدينة قنا، وقد كان والده عالماً من علماء الأزهر الشريف مما أثر في شخصيته ولغته وقصائده، ولد بنفس السنة التي حصل فيها والده على اجازة عالمية فسماه باسم أمل تيمناً بنجاحه، وكان يمتلك مكتبة تضم كتب الفقه والشريعة والتفسير مما أثر فيه وساهم في تكوينه كشاعر.

فقد أمل والده وهو في العاشرة من عمره مما أثر عليه كثيراً وأكسبه مسحة من الحزن نجدها في كل أشعاره، وبعد أن أنهى دراسته الثانوية في قنا سافر إلى القاهرة والتحق بكلية الآداب ولكنه إنقطع عن الدراسة منذ العام الأول لكي يعمل، فعمل موظفاً بمحكمة قنا ثم جمارك السويس والإسكندرية، ثم بعد ذلك موظفاً بمنظمة التضامن الأفرو آسيوي، ولكنه كان دائماً ما يترك العمل وينصرف إلى كتابة الشعر.

عاصر ثورة 1952 وأحلام العروبة مما ساهم في تشكيل وجدانه وقد صدم ككل المصريين بانكسار1967 وعبر عن صدمته في رائعته "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" ديوانه الأول الذي جسد فيه إحساس الإنسان العربي بنكسة 1967 وأكد ارتباطه العميق بوعي القارئ ووجدانه، ثم جاء عمله الثاني "تعليق على ما حدث" حيث شاهد بعينيه النصر وضياعه ووقف مع كل من وقفوا ضد معاهدة السلام، وكتب رائعته "لا تصالح" والتي عبر فيها عن كل ما جال بخاطر المصريين والعرب الشرفاء، ونجد أيضاً تأثير تلك المعاهدة وأحداث 18 و19 يناير 1977 واضحاً في مجموعته "العهد الآتي" وكان موقفه من عملية السلام سبباً في اصطدامه مع السلطة وقتها وخاصة ان أشعاره كانت تردد في المظاهرات.

عبر دنقل عن مصر وصعيدها وأهلها، ونجد هذا واضحاً في قصيدته "الجنوبي" في آخر مجموعة شعرية له "أوراق الغرفة 8"

صدرت له ست مجموعات شعرية هي:

"البكاء بين يدي زرقاء اليمامة 1969، تعليق على ما حدث 1971، مقتل القمر 1974، العهد الآتي 1975، أقوال جديدة عن حرب بسوس 1983

أوراق الغرفة 8 1983"

بعد 9 أشهر من زواجه، اكتشف الأطباء وجود ورم في جسده،وحددوا موعداً لإجراء الجراحة فانشغل الزوجان عن الخوف من المرض بتدبير المبلغ المطلوب للعملية، وهذا ما روته زوجته الكاتبة عبلة الرويني في كتابها الجنوبي، وتصف فيه كيف انكشف لهم معدن الأصدقاء، وكيف رفض أمل بيع خاتم الزواج الماسي، لأنه ثمن أرضه التي باعها في الصعيد، وحين أصرت على بيعه هدد بعدم الخضوع للعملية، ثم استطاعا تدبير 500 حنيه من عدد من الأصدقاء ومن بينهم صديق شديد الثراء دفع منهم 200 جنيه، ثم صدر قرار من صندوق الفنانين في وزارة الثقافة بتغطية نفقات العلاج، وتم ارسال النفقات على مراحل، فقاموا برد المبالغ المستدانة ما عدا الـ 200 جنيه حيث قبض صاحبه أضعافه، وبعد 5 أشهر من الجراحة ظهر ورم سرطاني آخر، فطالب بعض الأدباء من اتحاد الكتاب علاجه، فوافق رئيس الاتحاد وقتها الكاتب ثروت أباظة على أن يتقدم المريض بالتماس، فلم يقدموا التماساً، فصدر قرار من وزير شئون مجلس الوزراء بعلاجه على نفقة الدولة، في الدرجة الثانية من دون مرافق بنفقات قدرها 1000 جنيه، وكان قرار سخيفاً، وحين أتته مشاركات الأصدقاء على شكل مساعدات لتغطية نفقات العلاج، بكى من العجز والمرض والعذاب، واختفاء معظم الأصدقاء حين كان في أمس الحاجة إليهم.

وتتضح معاناته مع المرض في مجموعته "اوراق الغرفة 8" وهو رقم غرفته في المعهد القومي للأورام والذي قضى فيه ما يقارب الـ 4 سنوات، وقد عبرت قصيدته "السرير"عن آخر لحظاته ومعاناته، وهناك أيضاً قصيدته "ضد من" التي تتناول هذا الجانب، وكانت آخر قصيدة كتبها هي "الجنوبي" وكان أقرب أصدقائه عبد الرحمن الأبنودي و د. جابر عصفور وأحمد عبد المعطي حجازي الذي قال عن مرضه انه صراع بين متكافئين، الموت والشعر، حيث لم يستطع المرض أن يوقفه عن الشعر، إلى أن رحل عنا يوم21 مايو عام 1983 ومن أجمل ماكتب اخترت لكم مقطع من قصيدة لا تصالح:

لا تصالحْ

لا تصالح على الدم.. حتى بدم

لا تصالح ولو قيل رأس برأسٍ

أكلُّ الرؤوس سواءٌ

أقلب الغريب كقلب أخيك

أعيناه عينا أخيك

وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك

بيدٍ سيفها أثْكَلك

لا تصالحْ

ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخْ

والرجال التي ملأتها الشروخْ

هؤلاء الذين يحبون طعم الثريدْ

وامتطاء العبيدْ

هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم

وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخْ

لا تصالحْ

فليس سوى أن تريدْ

أنت فارسُ هذا الزمان الوحيدْ

وسواك.. المسوخْ

لا تصالح.. ولو منحوك الذهب

ترى إن فقأتُ عينيكَ..

و ثبتتُ مكانهما جوهرتين

هل ترى؟

هي أشياءٌ لا تُشتَرى...