يمكنك التنقل عبر جميع المواضيع أسفل الصفحة في الجانب الأيمن

ستت أيام في بلاد أرض البرتقال


بعد ثلاث ساعات ونصف من مغادرة القاهرة، هبطت بنا طائرة مصر للطيران في مطار روما بايطالية، فنزلنا أنا وزميلي لصالة المطار وختمنا جوازاتنا، ثم توجهنا لمكتب الخطوط الجوية البرتغالية "تاب" كي نؤكد حجزنا على متن طائرتهم المتجه للشبونة بعد ساعات قليلة، ثم خرجنا لخارج المطار كي نشاهد روما وايطاليا، هذا البلد الأوروبي الساحر بطبيعته الجغرافية وثقافته، والذي قدم عشرات مصممي الأزياء المعروفين عالمياً، هو مضرب مثل من حيث أناقة شعبه الاستئنائية في اللباس والإطلالة بشكل عام، لكننا لم نبتعد كثيراً كي نتابع رحلتنا، حيث سنشارك في مؤتمر عالمي بالبرتغال وسنمثل فيه مصر، فغادرنا روما دون أن نختم جوازاتنا مغادرين، وبعد ثلاث ساعات ونصف أخرى وصلنا للعاصمة البرتغالية لشبونة، وخرجنا من مطارها دون أن نختم جوازتنا، فوجدناها نظيفة تلمع تحت مطر غزير، إن المطر حلية أوربية تعلقها المدن والجسور والغابات على أجيادها ومعاصمها، تاركة قطراته البراقة تتدلى من آذانها أقراطاً من بلور، وقد أفرحني المطر على الرغم من أنني لا أميل له.

وعلى مدار 6 أيام بين مدينتي لشبونة ولمادا الواقعة على مكان التقاء نهر التاجو بالمحيط الاطلسي، عقد المؤتمر، وجميل أن تعقد المؤتمرات تحت شعارات وعناوين براقة، لكن الأجمل والأجدى والأهم، أن يبادر المشاركون إلى التطرق إلى قضية وطنية وإنسانية معاصرة هي قضية فلسطين وشعبها الذي يناضل بشتى الوسائل لأجل حريته واستقلاله، فهل كثير علينا أن نواكب نضاله، بأعمال تسلط الضوء على كفاحه وبطولاته ومعاناته، في ظل احتلال بغيض.

لاتملك لشبونة ضجيج القاهرة وزحام الاسكندرية، ولا متاجر دبي ولا إغراءات بيروت، ومقاهيها مثل فتاة جميلة رقيقة لا تكشف عن مفاتنها إلا بمقدار، لمن يتذوق الزهور والموسيقى والحلوى ومقاهي الشاي الأنيقة، مقاهي تنطوي على نفسها، تحتفظ ببهائها داخل جدرانها وتنثره على الأرصفة، أما الأواني والفناجين والصواني والأقداح التي تأتيك بها النادلات اللطيفات، فإنها تحفة تاريخية من أيام المجد والأباطرة ونبيلات القرون الماضية، كم هي جميلة بلاد البرتقال، كما سمّها العرب حيث أطلقوا على المناطق الغربية لهم ببلاد البرتقال حيث كانت هذه المناطق تنتج البرتقال والموالح، عرف عنها لاحقا و لمدة تزيد عن 300 عام "ببلاد البرتقال" و من هنا جائت تسميتها بالبرتغال وهي مسماه بهذا الاسم "بلاد البرتقال" على الخرائط الجغرافية القديمة التي استخدمها الملاحين العرب المقيمين و العاملين بتلك المنطقة "جنوب و شرق إسبانيا" و ببلاد المغرب العربي وقت الحكم العربي الإسلامي، ومن البرتغال أيضاً كريستوف كولومبس الذي أبحر من لشبونة ومعه مجموعة سفن متجهاً للهند عن طريق المحيط الاطلسي، بعكس طريق السفن كي يثبت كروية الأرض، فكتشف القارة الامريكية.

وبعد انتهاء أعمال المؤتمر غادرنا لشبونة على متن الطائرة البرتغالية متجهين لميلانو بايطالية، دون أن يطلب أحد جواز سفرنا، ووصلنا لميلانو دون أن يطلب أحد جوازنا أيضاً، وخرجنا من مطارها وفعلنا ما فعلناه حين وصلنا لروما، ثم رجعنا للمطار وغادرنا ايطالية على متن طائرة مصرية، لكن بعد أن ختموا لنا جوازاتنا هذه المرة.

لكن السؤال الذي كان يملأ علي طريقي وأنا عائد، ماراً في سماء اسبانيا وهضاب فرنسا وسهول ايطالية وجبال القلب، مستريحاً بميلانو مجتازاُ جزيرة صقليا، عابراً البحر، قبل أن تستقبلني قاهرة المعز بنسائم نيلها، كان السؤال الذي يشغلني، لماذا نحن العرب نعيش في فرقة وانقسام، لماذا نحافظ بالربط والإحكام على الفرقة والانقسام، لماذا نسافر من بلد عربي لبلد عربي، من جزء عربي لجزء عربي على نفس الأرض العربية، نبرز جواز سفرنا في كل بلد، على حين قطعت آلاف الأميال واجتزت أبعد المسافات، وانتقلت من الجو إلى البر، ومن الساحل إلى الداخل، دون أن يسألني أحد أين جوازك.

أوروبا قارة من اللغات والحروف، والأصوات والكلمات، ومع ذلك فإن الذي يجمعها هو لغة أخرى لغة الحدود الواحدة والبطاقة الواحدة والعملة الواحدة، فكيف لا يكون هذا في بلادنا، لغة واحدة هي هي في كل بلد، كيف استطاع التشتت اللغوي في القارة الأوربية أن يختفي عن طريق الدولة الواحدة، ولم يستطع التوحد اللغوي أن يساعد في الأرض العربية على إنشاء الدولة الواحدة؟

لماذا يتكلم الأوروبيين في الواقع العملي لغة واحدة برغم اختلافها، لا يفهم منها العالم إلا معاني العزم والتصميم والارادة، ونتكلم نحن في الواقع الشعري والأدبي لغة واحدة ننساها في الواقع العملي ليتكلم كل منا على هواه، ولتنقطع الصلة بين اللغة والفكر بين الواقع والواجب، ولايسمع بعضنا بعضاً، فإذا سمعنا فإننا لا نعي، وإذا وعينا فإن وعينا يقودنا إلى الجدل، فاختلاف لغاتهم اختفت وراء لغة الواقع والإرادة والحزم لتكون الصوت المسموع، فاللغة عندهم هي الفكر، ونفتقد نحن هذا التلاؤم أشد فقد وأقساه بين لغتنا وتفكيرنا، لماذا تلتقي هناك جبال الألب وشواطىء كان ولمادا، بينما لا يلتقي هنا ما بين الجزء من الساحل والجزء الذي يليه، لماذا تحمل الرياح هناك المطر، ويسقي المطر الشجر، فيحمل الشجر الثمر ليأكل منه الجميع، بينما تحمل الرياح عندنا العداوة والبغضاء.

لماذا نحمل 23 جواز، لكل جواز لون وشكل وتسمية وختم، ويحمل غيرنا جوازاً واحداً ذا لون وشكل وختم واحد، لماذا ترتفع في سمائنا 23 علماً، ولكل علم حكاية ثم ننسى الحكاية الكبرى، رسالة العلم والأمل الواحد واللغة والأرض الواحدة، في حين يرتفع في سماء غيرنا علم واحد يطوي الأعلام الصغيرة، ليؤلف على نحو ما من أنواع التأليف، طوعي أو كرهي، حكايت العلم الواحد.

كم نتمنا أن نقطع طريق الجدل ونأخذ طريق العمل، عمل ننفذه وأمل نحققه.

رجل تجاوز الحلم بأكثر من الممكن


الأيام تفصل بين البشر أكثر مماتفصله المسافات، فقد وصلني خبر وفاته كالغريب، ربما هكذا أصبح زماننا أو ربما هكذا أصبحنا نحن، ففي تصفح ما في شبكة التواصل الاجتماعي، أهداني الفيس بوك نبأ رحيله، فقد أصبح النت أكثر وفاءً منا وأسرع علماً برحيل أصدقاءنا، في زمن أصبحت الأخبار بكل أنواعها الحزينة والسعيدة، التافهة والمهمة تصلنا باردة معلبة، وربما منتهية الصلاحية وكأن حياتنا تحولت إلى مجموعة من المسجات الإلكترونية، بعضها يزف إلينا التهاني والأخبار السعيدة، وبعضها يفجعنا بالأخبار الحزينة وينعي لنا وفاة شخص ربما كان يوم رفيق حلم، أو طريق أو جلسات أو طموح.

مات الرجل الذي ابكى العيون الوقحة، مات البطل الذي بهرني في سنوات طفولتي بقصته الجاسوسية في مسلسل دموع في عيون وقحة، مات الرجل الذي علمنا حب الوطن وحب الناس وحب الخير، وأدمن الوفاء وكان وعده لأهل وطنه وعد الشرفاء، مات الرجل الذي أحب السفر والسهر والأصدقاء، وحقق في واقع حياته مالم يحققه غيره بالأحلام، فهو رجل تجاوز الحلم بأكثر من الممكن، مات بعيدأ عن بدايات أمست النهايات أقرب منها بكثير، فقد كنت خارج مصر ورجعت يوم رحيله وكم تمنيت أن اشارك في تشيعه، مات الرجل الذي أخرج خوف الكتابة من قلبي وراهن على أن روايتي ستنجح حين التقيته كي أُدون بعض ذكريات مراحل حروب حضرها وشارك فيها، وكانت معلوماته واجاباته خير معين لخروج روايتي للنور بعد أن رتب لذلك اللقاء الناشر الراحل الحاج مدبولي، وكان ذلك اللقاء في عام 2007 والذي اكتشفت فيه أحمد الهوان أو الملقب بجمعة الشوان الإنسان، الذي قدم لوطنه الواجب بكل ما تعنيه هذه الكلمة من عمل وجهد وتفان وإخلاص، وكانت أخر جلسة معه في اكتوبر 2010 لإجراء حوار لاحدى الصحف عن انتخابات مجلس الشورى وتوقعات نتائج انتخابات الشعب القادمة، والتي كانت نتيجتها نفس توقعاته ونبوءته أن هناك ثورة قادمة.

وكانت أخر زياراتي له بعدها بفترة وجيزة، وكان يصارع المرض نائماً، حيث كان المرض يخشاه كما كان الكثير من أشباه الرجال يخشونه، ولكن المرض كان قد بدأ يسكن جسده النقي من الخيانة، وأصبح ينام مستسلماً للمرض، ولن أقول لمرضه، لأن المرض لا يأتي حسب اختيارنا، المرض الذي ليس من بقايا الأهل والأصدقاء، لم يحدث أن أحب إنسان مرضه، ولم يحدث أن تمنى أحد المرض، فالمرض ضيف يأتي بلا دعوة، وهو الوجع والألم غير المرحب به تحت أي ظرف، لكن الرجل الذي زرع الشرف أينما حل، ولون الوجوه بالابتسامة أينما حضر، كان يرقد مستسلماً مؤمناً بالدعاء وبالقضاء والقدر، وبرحمة الله التي وسعت كل شيء.

واليوم يغيب عنا، لكنه سيبقى مشعاً في الذاكرة التي تضيء بأسماء اللامعيين الذين إذا مروا يوماً على هذه الأرض، يبقى منهم وإلى الأبد أثر طيب جميل، أو مثل ضوء لا يقوى عليه ظلام ولا نسيان.