يمكنك التنقل عبر جميع المواضيع أسفل الصفحة في الجانب الأيمن

تركيا .. جمال يكمن بداخله اسرار التاريخ




نشرته بأخبار يوم بيوم وجريدة الكرنك
قال نابليون بونابرت: "لو كان العالم دولة واحدة، لكانت عاصمتها إسطنبول" نابليون لم يكن يبالغ لأن من يزور هذه المدينة التي تعد بمثابة صلة الوصل بين أسيا وأوروبا بكل ما يتضمن ذلك من معاني، يدرك تماماً صحة قول نابليون، ويكتشف أنها ليست مجرد صلة وصل بين قارتين، إنما هي عبارة عن مزيج حضاري وتاريخي وثقافي غريب، حيث تعبق بسحر الشرق والغرب في آن واحد، وتقع  بين بحرين، البحر الأسود وبحر مرمرة حيث تمتزج فيها مياههما، مايجعلها أيضاً صلة الوصل بين الشمال والجنوب، وليس فقط بين الشرق والغرب، لتتميز بنكهة قد لا يكون لها مثيل في أي مكان آخر من العالم، تلك المدينة الخضراء، حيث تتداخل التلال الخضراء مع زرقة مياه البوسفور، حيث تقع على مضيق البوسفور، وتمتد على طول الجانب الأوروبي من المضيق والجانب الآسيوي ، وبيوتها تتألق بألوان القرميد الأحمر وزهور التوليب الصفراء، هي أكبر المدن التركية وخامس أكبر مدينة في العالم، وتعد مركز تركيا الثقافي والإقتصادي والمالي .
تأسست عام 685 قبل الميلاد وكانت قرية للصيادين تعرف بإسم بيزنطة، وفي عام 335 ميلادي أصبح أسمها القسطنطينية  وجعلها الأمبراطور قسطنطين عاصمة للإمبراطورية الرومانية، وفي عام 395 أصبحت عاصمة الإمبراطورية البيزنطية حتى فتحها السلطان العثماني محمد الفاتح عام 1453 وأطلق عليها الإستانة أو إسلام بول "مدينة الإسلام" وجعلها عاصمة الدولة العثمانية، وبعد انتهاء الحكم العثماني   وإعلان تركيا جمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك حول إسمها إلى اسطنبول .
من يزورها لا يشعر بأنه زائر أو غريب، بل يشعر أنه يعرفها ويعرف أهلها، حيث يجد تناغماً وانسجاماً معهم، فهي تضج بالحياة والحركة والمولات والمحلات التجارية ومراكز التسوق، وثمة أماكن سياحية وأثرية تستحق الزيارة، تعج بالسياح الذين يقفون في طوابير طويلة بهدف الفوز بجولة داخلها والإطلاع على تفاصيلها الهندسية والمعمارية الفريدة، حيث يتجسد التعايش الإسلامي ـ المسيحي في أبهى صوره، ويأتي في مقدمتها قصر"توب كابي" قصر محمد الفاتح، ومسجد السلطان أحمد أو الجامع الأزرق الذي بناه السلطان أحمد وسمي بالجامع الأزرق لأن حوائطه الداخلية من البورسلين الأزرق، وعلى بعد خطواط في الجهة المقابلة للمسجد يوجد  متحف آيا صوفيا المبنى الذي كان مقر الكنيسة الأرثوذكسية للبيزنطينيين وعندما فتح محمد الفاتح المدينة حوله لمسجد، وبعد انتهاء الحكم العثماني حوله مصطفى كمال أتاتورك لمتحف إرضاءاً للمسيحيين والمسلمين معاً، وهذه المنطقة محاطة بالمطاعم والمحلات التي تبيع الهدايا والتذكارات .
وفي وسط المدينة يمتد شارع تقسيم الملليء بالمحلات التجارية على طول 2 كيلو متر، حيث يعج بمتاجر التسوق والماركات العالمية والتركية، كما يمتلىء بالمطاعم، هذا الشارع النابض بالحياة يكاد يضيق بمن فيه على الرغم من اتساعه واقتصاره على حركة المشاة، حيث تمنع فيه حركة السيارات، إذ يظل يضج بحركة المشاة والمتسوقين حتى موعد إغلاق المحلات الساعة 12 ليلاً، ولا يمكن لمن يزور هذا الشارع إلا ويخصص له زيارة أخرى، سواء للتسوق والاطلاع على ما هو معروض في مولاته ومتاجره، أو لتذوق الكباب التركي الشهي الذي تعبق رائحة شوائه في أنوف المارة، لتجذبهم إلى حيث يتم تحضيره .
الجميل في اسطنبول أن الباعة الجائلين ينتشرون بعد غلق المحلات، ولا يسببون الزحام فنرى الشوارع والطرقات مليئة بهم في ساعات متأخرة من الليل .
 بين شوارع المدينة تذكرت أحد أهم أبناءها، الكاتب التركي أورهان باموق الذي قضى شطراً كبيراً من حياته يتسكع في شوارعها ومعالمها يمارس الرسم والقراءة قبل أن يحترف الكتابة، ويرجع الفضل في ذلك لوالدته حيث يقول: "تحولت بعض محادثتي مع أمي إلى جدل مرير، وبعدها أعود إلى غرفتي وأغلق الباب لأقرأ وأغرق في الشعور بالذنب حتى الصباح، كنت أخرج أحياناً بعد جدل مع أمي إلى برودة الليل، وأتجول بشكل متواصل في الشوارع الخلفية المظلمة والسيئة، حتى أشعر بقشعريرة في عظامي، وأعود إلى البيت بعد أن تنام أمي وكل من في المدينة، كنت قد توقفت بشكل يكاد يكون تاماً عن دراسة العمارة وحضور المحاضرات، باستثناء مرات قليلة كان علي أن أحضرها لأتجنب استبعادي وفصلي من الجامعة، وكنت أحياناً أقول في نفسي: حتى إذا لم أصبح مهندساً أبداً، فستكون معي شهادة جامعية، وهي ملاحظة كثيراً ما كررها والدي وأصدقائي وكل من له تأثير، في ما جعل موقفي على الأقل في عين أمي أكثر خطورة، خاصة بعد أن مات حبي للرسم وخلف وراءه خواء كبيراً، وكنت أعرف أنني لا يمكن أن أستمر إلى الأبد في قراءة الكتب والروايات حتى الصباح، أو قضاء الليالي في التجول في الشوارع... كانت أمي تقول لي  لكي تعزز نصائحها المستمرة، أنها اختارت لي اسمي لأنها معجبة بالسلطان أورهان من بين كل السلاطين، والأخير لم يقم بأي مشاريع عظيمة، ولم يحاول أبداً جذب الانتباه إلى شخصه، وعرفت في تلك الأمسيات التي كنا نتجادل فيها أن علي أن أقاوم الحياة السوداوية الوضيعة المنكسرة التي تقدمها اسطنبول، وبهذه المقاومة أحيا الحياة العادية المريحة التي تريدها أمي لي، سألتها مرة على أمل أن تقول شيئاً يجرحني أكثر: تحديداً ما الشيء الذي يفترض أن يؤذيني؟ فأجابت: لا أريد أن يعتقد أحد أنك تعاني متاعب نفسية، لذا لن أخبرصديقاتي بأنك لا تذهب للجامعة، أنت معتز بنفسك جداً، وأحب ذلك فيك، هناك كثيرون في أوروبا أصبحوا فنانين لأنهم اعتزوا بأنفسهم، وكانوا جديرين بالاحترام، لا أحد في هذه البلاد يمكن أن يعيش من الرسم وحده، ستصبح بائساً وسينظر الناس إليك باحتقار، وستبتلى بالعقد والبؤس والقلق حتى تموت... ويختم أورهان قائلاً: هكذا عدت ليلة وأنا لا أرغب في النقاش، وجلست أمام طاولتي وسجلت على ورقة: لا أريد أن أكون رساماً، سأكون كاتباً"
 بعدها خرجت رواياته ومؤلفاته للنور وكان أولها: جودت بيه وابناؤه عام 1982 ثم تلتها المنزل الهادىء، القلعة البيضاء، الكتاب الأسود، ورد في دمشق، الحياة الجديدة، اسمي أحمر، ثلج، البيت الصامت... ونال جائزة نوبل في الأدب عن مجمل أعماله في 2006 وكان أول كاتب تركي ينالها، وكل هذه الروايات يعالج فيها قضايا إجتماعية وسياسية صنفت في إطار الواقعية الاشتراكية ، وأماكنها القرى والمناطق الجبلية وهو يتحدث فيها عن أوضاع إجتماعية مختلفة يستمدها من التاريخ العثماني .
لابد لمن كان في اسطنبول من زيارة ميدان أمينونو، حيث يباع السمك المشوي الطازج اللذيذ في المراكب الراسية، والذي يمكن تذوقه قبل عبور الشارع والدخول لسوقان يعجان بالبشر، الأول سوق التوابل الذي يعبق بكل ما لذ وطاب من بهارات ومكسرات وحلوى وخضار طازجة ومجففة، وسوق المصريين "اجبشن بازار" الذي يباع فيه الملابس والاكسسوارات بالإضافة إلى الأواني المنزلية والمنتجات التراثية، وبعد الخروج منهما أنصح بتناول العشاء في مطعم "حمدي" حيث يقدم باقة من المأكولات التركية تبدأ بالسلطات المتنوعة، تليها المشاوي الشهية وأصناف الكباب التركي .
وهناك أيضاً مبنى سفير مول الذي يعد المبنى الأكثر ارتفاعاً في أوروبا، والذي يمتلىء بالمتاجر والمحلات المتنوعة التي تبيع أجود أنواع الأحذية والملابس والجلود، وفي الطابق الـ 51 بالمبنى  ثمة تراس يمكن الاستمتاع بتناول الغداء فيه، ومشاهدة إسطنبول من الأعلى، حيث تظهر عماراتها ومبانيها المغطاة بالقرميد مرصوفة إلى جانب بعضها البعض، حيث يشعر الزائر وكأنه يراها من الطائرة .
وبعيداً عن أماكن التسوق، من الرائع القيام برحلة بحرية في مضيق البوسفور الذي يخطف الألباب بسحره وهدوئه وجمال وصفاء مياهه، الذي يعج بالمراكب السياحية والقصور والفنادق المشيدة على ضفافه، وفيه جزء على شكل قرن يسمى بالقرن الذهبي وسبب التسمية ترجع حين فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية، كان مدخل المضيق يغلق بواسطة جنزير حديد يمنع دخول السفن إلا المسموح بعبورها، وكان البيزنطينيين يعيتقدون من المحال أن تدخل السفن إلا إذا هبطت الشياطين من السماء، فأمر محمد الفاتح بقطع الأشجار وربط جذوعها ببعض على شكل طريق من أسفل الجبل لأعلاه وإنزاله من الأعلى حتى الأسفل من الناحية الأخرى حتى نهايته حيث مياه المضيق، ودهن الطريق الخشبي بالزيت وقيام الجنود بسحب المراكب على الطيرق لأعلى الجبل ثم الهبوط بها للأسفل في المياه طوال الليل، وفي الصباح كانت أكثر من 80 سفينة قد دخلت مياه المضيق، فاستيقظ البيزنطيين مفزوعين وسلموا المدينة بعد أن ألقوا كل ممتلكاتهم من ذهب ومجوهرات في مياه المضيق فأصبح قاع المضيق يبرق وسمي بالقرن الذهبي...
 ثم نتابع الابحار في بحر مرمرة ومشاهدة أروع وأجمل الجزر التركية التي تسمى بجزر الأميرات، والوقوف في إحداها والقيام بجولة بالحنطور للتعرف على معالم الجزيرة .
وتذكرت في قصة زعيم حكاية لها أكثر من دلالة عن رجب طيب أوردغان حين كان رئيساً لبلدية اسطنبول، والتي جاءت على لسان رئيس الأملاك والعقارات خلال تلك الفترة حيث يقول:" كنا قد استصدرنا قراراً بهدم إحدى القرى التي تقع عند نهاية أحد الجداول في اسطنبول، واتفقنا مع أهل القرية بشأن التعويضات المالية المناسبة، وذهبنا للقرية لإتمام عملية الهدم ومعنا رجال الأمن والمعدات والأجهزة اللازمة، واصطحبنا معنا أيضاً فريقاً طبياً، وكنا نبدو لمن يرانا من بعيد أشبه بوحدة عسكرية ضخمة خرجت لإجراء مناورة عسكرية، ولما كان الأمر يتعلق بالهدم وهو موضوع حساس بطبيعته، فقد قرر أوردغان الذهاب معنا ولم يكن في مقدورنا منعه، تقدمنا نحو أهالي القرية الذين امتلأوا بالسعادة والفرح عندما رأوا رئيس البلدية معنا، واستقبلوه بالترحيب والتهليل، وفجأة خرجت من بينهم امرأة عجوز وتقدمت نحونا وقالت لأوردغان: أهلاً ومرحباً بكم يا بني، لقد أعددت لكم لبن العيران ((زبادي مع توم مطحون وملح خفيف يضاف له ماء مثلج)) بيدي فخذ وتذوقه وقل لي، هل يشبه اللبن الذي تصنعونه عندكم؟ فقال لها أوردغان: شكراً يا أماه أتعبت نفسك وسلمت يداك، وكان قد أعجب بالأم العجوز ذات الوجه البشوش الباسم، وتأثر من حسن ضيافتها وطاب له أن يسألها عن أحوال القرية، حيث أنها من أكبر الحاضرين، فقالت: يا بني وجدت نفسي في هذه القرية منذ تفتحت عيناي على الدنيا، فهذه القرية موغلة بالقدم، غير أنها كانت أجمل وأروع مما تراه الآن.. آه لو كنت رأيتها، كانت تكسوها الخضرة وتلفها الأشجار من كل جانب، وكانت أشجار الصفصاف الضخمة تمتد على ضفتي الجدول، حتى إن ذراعيك لا تسعهما الإحاطة بها، ليت هذه الصخور والفروع والأغصان كانت لها ألسنة حتى تحدثكم وتقص عليكم، واغرورقت عيناها بالدموع وهي تحكي عن ذكرياتها، في القرية، فكانت تتكلم حيناً ثم تتوقف فتتنهد، وكأن مرارة الحسرة والشوق قد غلبت عليها، فكنا نراها هائمة وهي تقص علينا ذكريات قديمة عن المكان والأحبة والجداول وشروق الشمس وغروبها، وقطعان الماشية ترعى وسط الحقول.. أثرت فينا الأم العجوز وهزت مشاعرنا، وكنت أتمالك نفسي حتى لا يغلبني البكاء، وحين نظرت لأوردغان وجدت الدموع تنساب على وجنتيه، ثم قال لنا: اجمعوا الأجهزة والمعدات سنرحل من هنا، طننت لوهلة أنه يمزح، لكن عندما نظرت إلى وجهه لا حظت علامات الجد، وبقدر ما فهمته، فإن الرئيس فطن إلى أن أهالي القرية غير راضين عن قرار الهدم، وموافقتهم كانت عن خوف لا عن قناعة، وهكذا عدنا من حيث أتينا" 
أعود وأتابع معكم، أيضاً علينا أن لا ننسا زيارة مدينة بورصة، حيث السير من اسطنبول لمدة ساعة بالسيارة ثم عبور البحر الأسود بعبارة لمدة ساعة أخرى والوصول للجهة الأسيوية ومتابعة السير بالسيارة لمدة ساعة أيضاً، وفي الطريق نشاهد مطار صبيحة وهي أول إمرأة في العالم تقود طائرة حربية، وهو مطار أخر غير مطار أتاتورك في الجانب الأوروبي الذي وصلنا لاسطنبول من خلاله، ونواصل السير للوصول لمدينة بورصة  المشهورة بمصانع الجينز والحلويات، ثم صعود الجبل العظيم بواسطة التلفريك، ودخول غابات خضراء، والغداء في مطعم بين أشجار الغابة على أجمل مناظر طبيعية، حيث يقوم الزوار بشواء طعامهم "الباربكيو" بأنفسهم، ثم النزول مرة أخرى والقيام بجولة في مصانع القطنيات والجينز والحلويات، وتذوق الحلويات  التركية من بقلاوة بالفستق أو الأصناف المصنوعة من الحليب .
إن كل هذا المزيج في تلك البلاد الرائعة التي تمثل أفضل الأماكن السياحية جمال يكمن بداخله اسرار التاريخ .