يمكنك التنقل عبر جميع المواضيع أسفل الصفحة في الجانب الأيمن

صدفة لقاء




كل أصدقائي كبروا إلا أنا! هل يُداخلكم هذا الشعور؟ فتشاهدون الزمن على وجوه أصدقائكم بوضوح أشد مما هو على وجوهكم! تُرى هل تخدعنا أعيننا أم تُجنبنا صدمةً ما؟
زففت أصدقائي إلى بنات أحلامهم صديق صديق، وحملت أبناءهم بين يدي، وبقيت على وعدي لها لكن كان بالنسبة لها ككلمات من هواء كتبت في الفضاء ليس لها صوت ولا صورة ولا وطن.
بي من الحنين ما يجعلني أفكر في طرق باب فيروز، أو زيارة قبر نزار قباني، أو التجول في شوارع القاهرة أيام أفلام الأبيض والأسود حيث كان عبد الحليم يوماً، فعندما أحببتها كنت لا أعلم أنه سيكون هناك مرحلة زمنية تسمى الفراق، لكنني لم أكن أعلم أنها المرحلة التي يضطر فيها الميت لتمثيل دور الحي بكل طقوسه، فالأيام تنهي كل شيء في العمر، الطفولة والصحة والرفاق، وأحياناً المبادىء والقيم، لهذا ما عادت الثوابت ثوابت.
فقد أكسبني رحيلها عادة سيئة وأورثني وسوسة مقلقة، فمنذ أن رحلت وأنا أبحث في كل شيء مغلق أراه أمامي علني أجدها في داخله، وأعبث في الرماد علني أعثر على قطعة نار أعيد بها إشعال الحكاية معها لكنها أطفأت كل ناري وتركتني لبرد العمر ولم تخلف لي سوى الرماد الذي ملأ فم الحكاية وعينيها، صنعت لها من جلدي معطفاً يقيها برد العمر، فمضيت بالمعطف وتركتني لبرد الطريق مكشوف الجلد، فيا ترى أمازال معطفي يمنحها الدفء.
عندما كنت أختلق الأحاديث كي تطيل البقاء أمامي أنا لم أكن أراهق، انما كنت أجاهد كي يقف الزمن في حضرتها، طال غيابها والأماكن التي كانت تشتاق إليها تعدت الشوق بمراحل وأمست كلها تبكي عليها، واكتشفت أن أرض الحب ليست صلبة هي رخوة أكثر من اللازم، لهذا يتساقط عليها العشاق كثيراً، وحين يتساقطون يحتاجون إلى الكثير من الوقت للنجاح في محاولة الوقوف مرة أخرى.
الآن أقف على النيل أتأمله، النيل الذي يتسع صدره لكل الأحزان، كم من الأرواح قذفت في مياه هذا النهر أحزانها دون أن تدري، وها أنذا أقذف آهاتي فيه، بعد أن انتحرت بداخلي كل أسباب الحياة.
لم يأخذها النيل مني، لكني عشت عمري كله في انتظار أن يعيدها إلي ولا أعلم لماذا حملته وزر غيابها، فوقفت على شاطئه في انتظار زورقها سنوات طويلة، ظهر العمر على وجهي وزورقها لم يظهر.
منذ سنوات وأنا أقف على الكورنيش وألمح الزورق من بعيد لكنه لا يقترب أبداً، أيكون للنيل سراب كسراب الطريق؟
منذ أيام تقابانا صدفة فنظرت لطفلتها، رأيتها تدقق النظر إلي فعرفتها بنفسي: أنا الذي أحببت والدتك يوماً بجنون.

المغادرون

نشرته بأخبار يوم بيوم 

في اللحظات الأخيرة من حياة الملكة ماري أنطوانيت، داست على قدم المكلف بإعدامها فقالت له: أسفة يا سيدي تقبل اعتذاري، وحين تقدمت مدام رولان للمقصلة وقبل أن تصعد إلى سلمها وأمامها وخلفها رجال ونساء، كل تهمتهم أنهم كانوا مقربين من بلاط لويس السادس عشر، حاول رجل أن يتخطاها لينتهي من عذاب الانتظار المؤلم، فإذا بها تمسكه من ثيابه وتزيحه عن طريقها وتقول له: أنت غير مهذب فالرجل الفرنسي يجب ألا ينسى قواعد الإتيكيت، تلك القواعد التي تفرض مرور السيدة أولاً.
 ففي لحظات الرحيل الأخيرة كان هناك ذوق واحترام، وفي لحظات الحياة العريضة نقابل أشخاصاً صادمين، يتصرفون بفظاظة وقلة ذوق، يرفعون الضغط ويستفزون الحجر، فأحياناً نكتب رواية نجعل أبطالها أحباب وأصدقاء وأقرباء، وحين نصل للصفحة الأخيرة نكتشف أنهم يختلفون كثيراً عن الواقع، وأنهم في الرواية لا يمتون للواقع بصلة ابداً، فأحياناً نعتقد أننا نعني شيء لأشخاص، ثم نكتشف أننا لا نعني لهم أي شيء وأن الشيء الوحيد الذي يعنيهم هو أنفسهم، وحين نتسامح معهم يعتقدون أنه خضوع، والتسامح ليس خضوع، إنه قاعدة كبرياء.
 فيدخل لحياتنا أشخاص نعتقد أنهم مهمين فيها، ثم يغادرنا كل واحد منهم بصدمة وتصبح حياتنا ملونة الجدران بألوان مواقفهم، لكل موقف لون مختلف وذكرى مختلفة، بعض الذكريات نحرص على ترميمها وتجديد طلائها، وبعضها ننتظر انهيار أخر بقياها، وتعود المياه إلى مجاريها في بعض الاحيان، لكنها لا تعود دائماً صالحة للشرب، هكذا هي عودة بعض الاشخاص إلى حياتنا، فلا أحد يتغير فجأة، ولا أحد ينام ويستيقظ متحولاً من النقيض إلى النقيض، كل ما في الأمر أننا في لحظة ما نغلق عين الحب ونفتح عين الواقع، فنرى بعين الواقع من حقائقهم مالم نكن نراه بعين الحب، فياعين الحب نامي.
للأسف في الفترة الأخيرة غادر من ميدان السياسة شخصيات كثيرة، ومن كثرة الذين غادروا، خُيل إليَ أن الحلبه السياسية تحولت إلى مطار وقاعة المغادرين فيه تكتظ بوجوه كثيرة وطائراته التي تقلع لا تعود، والوحشة تمزق المقاعد في قاعة القادمين، فهناك الذين غادروا بإرادتهم والذين غادروا بدون ارادتهم، فالذين غادروا بإرادتهم كلنا يعرف الأسباب لأنهم لم ولن يقبلوا أن يكونوا مجرد دمى في أيدي غيرهم، أما الذين غادروا بدون ارادتهم، فبدأو بسيل الاتهامات والادعاءات ثم مضوا في النهاية، وفي اعماقي أراقبهم ببرودة ميت، فأشعر أنهم سيحملون أحذيتهم بأيديهم وسيمضون على عجل، لن يُتح لهم الوقت لانتعالها والرحيل بكرامة، فعند الرحيل لن يحرصوا على اناقة البدايات وسيفقدوا من عطرهم الكثير، فبعض النهايات تأتي كأنثى مهملة الشعر رثة الثياب، تتصرف معنا بلا أدب وبلا أخلاق، فنادراً ما نصادف في العمر نهاية حسنة التربية.